كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان الظاهر على هذا المعنى أن يقول: ولكنّ اللّه حبّب إلى بعضكم الإيمان، ولكنّه عمّم الخطاب تعريضا بمن فرط منه ذلك، وإشارة إلى أنهم وقد دخلوا في الإيمان واستقر الإيمان في قلوبهم ما كان ينبغي أن يكون ذلك شأنهم، فاستغني عن التنصيص على خطاب البعض لذلك، وأيضا فإنّه لما ذكر الصفة التي تميز هذا الفريق اكتفى بها عن التنصيص على الموصوف، مراعاة لما في تعميم الخطاب من فائدة التعريض.
ويرى بعضهم أنّ الخطاب لجميع المؤمنين، والمعنى عليه: أنّه لم يلحقكم العنت، لأنّه يعلم أنّه لم يدفعكم إلى ما أنتم فيه إلا حبّكم الإيمان، ومقامه في قلوبكم، وكرهكم الكفر، ونفرتكم من الفسوق والعصيان.
ومعنى تحبيب الإيمان إليهم تقريبه لهم، وإدخاله في قلوبهم، ومعنى تزيينه في قلوبهم إقامته فيها، بحيث لا يفارقها، وذلك أنّ من أحبّ شيئا فقد يفارقه، ولكن إذا زيّن له يستمر في الإقامة عليه والمكث فيه.
وقد ذكر اللّه الإيمان، وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم، وهي: الكفر، والفسوق، والعصيان. والإيمان اسم لثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. فالكفر هو الإنكار، وهو يقابل الإذعان بالجنان. والفسوق يقابل الإقرار باللسان، وقد سبق إطلاق الفسق على المجيء بالنبإ الكاذب، وسيجيء إيراده بهذا المعنى في قوله: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ} وذلك يدلّ على استعمال الفسق في الأمر القولي.
وهو في هذا المعنى مناسب لاشتقاق كلمة الفسق، فإنّها في أصل وضعها تدلّ على الخروج، مأخوذة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فهو يدلّ على الظهور والكذب يظهر ويعرف، فمن ثمّ صحّ إطلاق الفسق عليه. وأما العصيان فهو ترك العمل. ويرى بعضهم أنّ الكفر: الشرك، والفسوق: الكبيرة، والعصيان: الصغيرة.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} الإشارة فيه إلى الفريق الذي حبّب إليه الإيمان، وزيّن في قلبه، والخطاب فيه للرسول صلى الله عليه وسلم وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ووقفوا عند إرشاده، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم، فاستحقوا الرشد وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.
{فضلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قوله: {فضلا} إما منصوب على أنه مفعول له، والعامل فيه فعل مفهوم من قوله: {الراشدون} أي وفّقهم اللّه إلى الرشد، فضلا، منه ونعمة، والعامل فيه حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ويكون قوله: {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} جملة اعتراضية، وإما منصوب عل أنّه مصدر من غير لفظ العامل، وهو الراشدون، وذلك أن الرشد فضل، فكأنه قيل: هم الراشدون رشدا، أو هو مصدر، وعامله محذوف، أي تفضل فضلا، وأنعم نعمة. والفضل: ما في خزائن اللّه، وهو مستغن عنه، والنعمة: ما يصل من الفضل إلى العبد.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يعلم من يتحرّى الخبر ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلى الله عليه وسلم على ما تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء، ويعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها، ويأمره منها بما تقضي به الحكمة، فيجب أن تقفوا عند أمره، وأن تجتنبوا الاقتراح عليه.
قال اللّه تعالى: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}.
لما حذّر اللّه المؤمنين نتائج الاستماع لنبأ الفاسق، أراد أن يبيّن ما يتدارك به الأمر لو وقع، فقال: وَإِنْ طائِفَتانِ الطائفة: أقل من الفرقة، بدليل قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} [التوبة: 122] كذا قيل، ولك أن تقول: لولا تقدّم الفرقة ما فهم منه هذا المعنى، فالطائفة الجماعة، والفرقة الجماعة، وقد تكون الجماعة قليلة، وقد تكون كثيرة.
والتعبير (بإن) للإشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع فإنما يقع من الندرة والقلة، التي يشكّ في وجودها، وجاء اقْتَتَلُوا بلفظ الجمع، مع أنّ الظاهر مجيئه بلفظ التثنية، لأن الطائفة وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع في المعنى، فروعي فيه المعنى أولا، ثم روعي اللفظ ثانيا، في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.
و{اقتتلوا} بمعنى تقاتلوا، والمراد بالإصلاح في قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} الأولى بذل النصح والإرشاد، وإزالة الشبه التي تكون عند إحداهما، أو عند كليهما، ودعوتهما إلى النزول على حكم اللّه.
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى} البغي: العدوان، والمراد الغلو بغير الحق، وعدم الإذعان للنصيحة {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} أي استمرّوا في قتالها حتى ترجع إلى حكم اللّه، أو إلى ما أمر اللّه به من عدم البغي.
{فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ} بفصل ما بينهما من أسباب الخصومة ونتائجها، ولا تكتفوا بمجرد المتاركة والموادعة، خشية أن تكون إحداهما أو كلاهما تركته تقية، وانتظارا للفرصة تسنح، وتقييد الصلح بالعدل هنا لأنه بعد القتال، وذلك مظنة الحيف، أي لا يحملنكم ما كان منهم من عناد وبغي على أن تظلموهم، ولا على أن تظلموا عدوّهم لضعفه، بل يجب أن تعدلوا {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}.
{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي اعدلوا، والزموا العدل في كل الأمور، فإنّ اللّه يحب المقسطين، فيجازيهم أحسن الجزاء.
سبب النزول: أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم في سبب نزول هذه الآية عن أنس رضي اللّه عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد اللّه بن أبي، فانطلق إليه، وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه، قال: إليك عنّي، فو اللّه لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار:
واللّه لحمار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد اللّه رجال من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل اللّه فيهم: {وَإِنْ طائِفَتانِ}.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد اللّه بن أبي بن سلول، فقال ما قال، فرد عليه عبد اللّه بن رواحة، فتعصّب لكل أصحابه، فتقاتلوا، فنزلت، فقرأها صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا، وكان ابن رواحة خزرجيا، وابن أبي أوسيا.
وقيل: إنّها نزلت في رجل من الأنصار يقال له عمران، وكان تحته امرأة يقال لها: أم زيد، وقد أرادت أن تزور أهلها، فحبسها زوجها، وجعلها في علية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، فبعثت المرأة إلى أهلها، فجاء قومها، فأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه، فجاؤوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا، وكان بينهم معركة، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم، وفاؤوا إلى أمر اللّه.
والخطاب في الآية الكريمة لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب، فيجب الإصلاح بالنصح، فإن أبت إحداهما إلا البغي، وجب قتالها ما قاتلت، فإن رجعت عن بغيها، والتزمت حكم اللّه تركت.
هذا وقد تمسّك جماعة بما جاء في سبب النزول، وقالوا: يقتصر في قتال الفئة الباغية على ما دون السلاح، ولا يجوز مقاتلتهم بالسلاح، وهو لا يصح أن يتمسّك به. فأنت تعلم أنّ اللّه قال: {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} وهو أمر بالمقاتلة إلى الفيئة، فإذا كانوا لا يفيئون إلا بالسيف وجب قتالهم به، لأن الغرض من المقاتلة هو الفيئة، وهي لا تحصل إلا به، وقد وقع من الصحابة قتال البغاة بالسيف، وكفى بهم قدوة، ونزول آية عامة على واقعة خاصة لا يخصص العام، على أنّ القتال إنما شرع عند البغي قمعا للفتنة بين المسلمين، والمفروض أنّ العلاج قد استعصى بالنصح، ويراد اتخاذ علاج حاسم، فليترك الأمر لمن يباشر الحسم، فإن رأى أنّ الدواء يستأصل بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن رأى أنّ الفتنة لا تدفع إلا بالسلاح فعل حتى الفيئة.
واختلفت أقوال الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم، فعن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: أن أموالهم لا تكون غنيمة. وإنما يستعان على حربهم بكراعهم وسلاحهم عند الاستيلاء عليه، فإذا وضعت الحرب أوزارها ردّ المال عليهم، وكذا يردّ الكراع والسلاح إذا لم يبق أحد باغيا.
وروي عن أبي يوسف: أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح فهو فيء يقسّم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.
وروي عن الإمام مالك رضي اللّه عنه: ما استهلكه الخوارج من مال ودم ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه ردّ، وهو مروي عن الأوزاعي والشافعي.
وقال الحسن بن صالح: إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا، وأخذ ما معهم، فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس، إلا أن يكون شيء قد علم أنّهم سرقوه من الناس، وعرف أصحابه، فإنّه يردّ عليهم.
وما استهلك من أموالهم أثناء التجمع للقتال، والتفريق عند وضع الحرب أوزارها، لا ضمان فيه بالإجماع.
وقد جاء في حديث أخرجه الحاكم ما يوضّح الحكم في المسألة، فقد جاء فيه قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمة».
فقال: اللّه ورسوله أعلم. قال: «لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسّم فيئها».
وقد روى عكرمة بن عمار بسنده عن ابن عباس أنّ الخوارج نقموا على علي رضي اللّه عنه أنّه لم يسب ولم يغنم، فحاجّهم قائلا: أفتسبون أمّكم عائشة، ثم تستحلون منها ما تستحلّون من غيرها؟ فإن فعلتم لقد كفرتم.
وقد سئل أبو وائل: أخمّس علي أموال أهل الجمل؟ قال: لا.
وإنما ذكر اللّه العدل في الإصلاح بعد الفيئة، لأنّ هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على أمرها، ويغلب أن تظلم، وتصادر أموالها، وما أخذ منها لا يردّ إليها.
فالعدل وذكره هنا بمثابة أن يقال: لا يحملنّكم قهركم إياهم على ظلمهم، فهم طائفة من المؤمنين عصمت دماؤهم، وعصمت أموالهم، وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم، وما نالهم من الهزيمة، فتكون الآية حينئذ ظاهرة في أنّه لا يجوز أسرهم بعد الفيئة، ولا يكون مالهم فيئا ولا يضمّنون شيئا.
قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}.
بيّن اللّه تعالى في الآية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بين طائفتين من المؤمنين، فالواجب إصلاح ذات البين بالنصح والإرشاد، فإن جنحا للسلم، فقد كفى اللّه المؤمنين القتال، وإن جنحت إحداهما، وبغت الأخرى، فالواجب قتال الباغية حتّى تفيء إلى أمر اللّه، فإن فاءت ورجعت فالواجب الإصلاح بالعدل، لا يجهز على جريح، ولا يسبى أحد، ولا يقسم الفي ء، وهنا بيّن اللّه تعالى أنّ الإصلاح كما يجب بين الجماعات فهو واجب بين الأفراد، حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ الإصلاح إنما يجب عند اختلاف الجماعات والطوائف، لأنّ اختلاف الجماعات شديد البلاء، يخشى منه على المسلمين أن تذهب ريحهم، ويتمكّن منهم عدوّهم. فأمّا إذا كان الخلاف بين فردين فليست له هذه الأهمية، فلا يجب الإصلاح، فدفعا لهذا الوهم قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقد ذهب بعض أهل اللغة، إلى أنّ إخوة جمع الأخ من النسب، وأما الأخ بمعنى الصديق فجمعه إخوان، فجعل اللّه الإخوة في الإسلام إخوة في النسب، فأعطاها اسمها توكيدا لأمر المحافظة عليها، وإشارة إلى أنهم في الإسلام إخوة، وأن الإسلام ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم.
أبي الإسلام لا أب لي سواه ** إذا افتخروا بقيس أو تميم

وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين ذيّل اللّه الأمر به بالأمر بالتقوى، لأنّه لما لم يكن عاما فقد لا يخشى ضرره، فلا يتسارع الناس إلى إزالته، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يعني واللّه أعلم: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح تقوى اللّه وخشيته، والخوف منه، فالتزموا الحق العدل، ولا تحيفوا، ولا يكن منكم ميل لأحد الأخوين، فإنّهم إخوانكم، وليس أحدهما بالنسبة إليكم فاضلا والآخر مفضولا، إذ الذي جمع بينكم وبينهما الإسلام، وفي الإسلام تذهب الفوارق وتتلاشى.
الحصر (بإنما) يفيد أنّ أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام، فأما بين الكفار فلا، وأما بين المسلم والكافر، فللمسلم علينا النصرة والإعانة مطلقا إن كان خصمه حربيا. ونصره وإعانته عند وقوع ظلم عليه إن كان خصمه ذميا أو صاحب أمن.
وأما إن كان خصمه ذميا والمسلم ظالم له، فالواجب علينا وضع الظلم، فقد استحق بعقد الذمة أن يكون له ما لنا وعليه ما علينا.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}.
السخر: الهزء، قيل: وهو النظر إلى المسخور بعين النقص، وقال القرطبي: إنّ السخرية وهي اسم منه، الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه. والأكثر تعدية فعله (بمن) وهي لغة الكتاب العزيز، كما تدل عليه الآية التي معنا، وقوله تعالى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: 38] ويقال: فلان سخرة، بوزن همزة.
إذا كان يهزأ به الناس، وقد تكون السخرية بمحاكاة الفعل بالقول والإشارة، أو الضحك على كلام المسخور منه إذا بدا منه تخبط أو غلط، أو على صنعته، أو قبح صورته، ويرى بعضهم أن السخرية ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته. ويرى البعض أنّ المراد منها احتقار القول أو الفعل بحضور صاحبه.
والآية نزلت في قوم بني تميم، سخروا من بلال وسلمان وعمّار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة.
وقد ذكر فيها النهي عن السخرية بالنساء تتميما لبيان الحكم.
وروي أنّها في شأن أمّ سلمة حين سخر منها بعض الصحابيات، وقيل غير ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ تعليل للنهي، أي عسى أن يكون المسخور منه عند اللّه خيرا من الساخر، ف «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على اللّه لأبرّه» وقيل: بل المعنى عسى أن يبدّل اللّه الحال، ويعكس الأمر، فيصير المسخور منه عزيزا رفيع الجانب، والساخر ذليلا مهانا، وهو حينئذ على حد قوله:
لا تهن الفقير علّك أن ** تركع يوما والدهر قد رفعه

وقد ذكر اللّه تعالى النساء مع القوم في الآية، فكان ذلك قرينة على أنّ المراد بالقوم الرجال. ويرى بعضهم أنّ القوم اسم خاصّ بالرجال لا يدلّ على النساء إلا من طريق التغليب، ومنه ما جاء في بيت زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

وكأنّ هذا المعنى يرجع إلى أنّ لفظ القوم مأخوذ من أنّ الرجل قوّام على المرأة، وهو في الأصل: إما مصدر بمعنى القيام، ثم استعمل في جماعة الرجال، وإما اسم جمع لقائم.